You are currently viewing التحدي الصامت لعصر التكنولوجيا

التحدي الصامت لعصر التكنولوجيا

  • Post author:
  • Post category:AI

الإدمان الرقمي: التحدي الصامت لعصر التكنولوجيا

بقلم: الدكتور محمد عصمت البياتي

مدخل إلى ظاهرة الإدمان الرقمي
مع انفجار الثورة الرقمية وتغلغل التكنولوجيا في تفاصيل حياتنا اليومية، ظهر مفهوم الإدمان الرقمي كإحدى الظواهر البارزة في العصر الحديث. يُعرَّف الإدمان الرقمي بأنه الانغماس المفرط وغير المبرر في استخدام الأجهزة الإلكترونية والتطبيقات، إلى درجة تقييد قدرة الفرد على التحكم في حياته الشخصية والمهنية.
هذه الظاهرة لم تعد مجرد مسألة سلوكية بسيطة؛ بل أضحت تحديًا علميًا واجتماعيًا، حيث أظهرت الدراسات أن الاستخدام غير المنضبط للأجهزة الرقمية يؤدي إلى أضرار نفسية وصحية واجتماعية عميقة.

الإدمان الرقمي بين المفهوم العلمي والواقع العملي

وفقًا لتعريف الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA)، يُعتبر الإدمان الرقمي جزءًا من اضطرابات السلوك الإدماني، على غرار إدمان المخدرات والكحول. إذ تعتمد التطبيقات الرقمية على آليات تُحفز نظام المكافأة في الدماغ من خلال إفراز مادة الدوبامين، التي تمنح شعورًا بالمتعة وتحفز الرغبة في إعادة التجربة.

التقدم العلمي في دراسة الإدمان الرقمي:
• كشفت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2023 أن الأفراد الذين يقضون أكثر من 7 ساعات يوميًا على الأجهزة الرقمية يظهرون معدلات أعلى من القلق والاكتئاب مقارنة بمن يستخدمون التكنولوجيا بشكل متوازن.
• أظهرت دراسة في جامعة كاليفورنيا أن التمرير المستمر على التطبيقات مثل TikTok وInstagram يُغيّر النشاط العصبي في القشرة الجبهية، وهي المنطقة المسؤولة عن اتخاذ القرارات، ما يجعل التوقف عن الاستخدام أكثر صعوبة.

انتشار الظاهرة: أرقام ودلالات عالميًا :
• تشير إحصائيات Statista لعام 2024 إلى أن متوسط وقت استخدام الإنترنت للفرد العالمي بلغ 7 ساعات يوميًا، مع زيادة ملحوظة في السلوكيات الإدمانية بين المراهقين.
• في كوريا الجنوبية، التي تُعد واحدة من أكثر الدول اتصالًا رقميًا، أظهرت التقارير أن حوالي 20% من الشباب يعانون من الإدمان الرقمي. هذا دفع الحكومة إلى إنشاء مراكز علاجية رقمية تهدف إلى مساعدة الشباب على استعادة التوازن في حياتهم.
في العراق:
• تشير بيانات وزارة الاتصالات العراقية إلى أن 70% من الشباب يقضون ما يزيد عن 6 ساعات يوميًا على الإنترنت، معظمها مخصصة لمنصات التواصل الاجتماعي.
• مع غياب الرقابة الأسرية وضعف التوجيه التعليمي في استخدام التكنولوجيا، أصبح الإدمان الرقمي في العراق يشكل خطرًا على الصحة النفسية والاجتماعية للأجيال الصاعدة.

أسباب الإدمان الرقمي: منظور علمي واجتماعي
1. الجاذبية التقنية للتطبيقات الرقمية:
• تعتمد منصات مثل Facebook وSnapchat على خوارزميات ذكاء اصطناعي تُصمم تجارب شخصية للمستخدمين، مما يجعلهم يستمرون في استخدامها لفترات أطول.
• ألعاب الفيديو تعتمد على نظام المكافآت الافتراضية، مما يخلق شعورًا بالإنجاز الزائف ويزيد من تعلُّق اللاعبين.
2. الضغوط الاجتماعية والنفسية:
• يسعى المستخدمون، خاصة الشباب، إلى مواكبة الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعزز شعورًا بالحاجة إلى التواجد المستمر على هذه المنصات.
• الارتباط بالعلاقات الافتراضية يُضعف العلاقات الحقيقية، ويؤدي إلى العزلة الاجتماعية.
3. العوامل البيولوجية:
• أوضحت دراسة من جامعة ستانفورد أن الاستخدام الطويل للتكنولوجيا يُحدث تغيرات في كيمياء الدماغ، مما يجعل الفرد أقل حساسية للمكافآت التقليدية، ويزيد من اعتماده على التحفيز الرقمي.

آثار الإدمان الرقمي على الأفراد والمجتمعات الصحة النفسية:
• أظهرت دراسة لـمنظمة الصحة العالمية أن الإدمان الرقمي يساهم في زيادة معدلات الاكتئاب والقلق، خاصة بين المراهقين.
• الشعور بالعجز والإرهاق الذهني نتيجة التواجد الدائم في عالم افتراضي مليء بالمقارنات والضغوط النفسية.
الصحة الجسدية:
• التعرض المستمر للضوء الأزرق المنبعث من الشاشات يُؤدي إلى اضطرابات في النوم، ما يضعف الأداء اليومي.
• الاستخدام المفرط للأجهزة يُسبب مشاكل في العمود الفقري وإجهاد العين.
المجتمع والأسرة:
• تآكل العلاقات الأسرية، حيث يقل الوقت الذي يقضيه الأفراد مع أسرهم بسبب الانشغال المستمر بالهواتف الذكية.
• تراجع المشاركة الاجتماعية والأنشطة الجماعية لصالح العوالم الافتراضية.

سبل الوقاية والعلاج والتوعية المجتمعية :
• حملات توعوية مثل مبادرة “التوازن الرقمي” التي أطلقتها وزارة الصحة الفرنسية لتشجيع الأفراد على الحد من استخدام الأجهزة الرقمية.
• تنظيم ندوات في المدارس والجامعات العراقية لتوضيح مخاطر الإدمان الرقمي، مع تقديم بدائل إيجابية.
التكنولوجيا لضبط التكنولوجيا:
• تطبيقات مثل Digital Wellbeing وScreen Time تُساعد الأفراد على مراقبة وقت استخدامهم للأجهزة الرقمية وتقليله.
تعزيز الأنشطة البديلة:
• تشجيع الرياضة والفنون والهوايات التقليدية كوسائل للترفيه والتفاعل الاجتماعي.
• إنشاء مراكز شبابية عراقية تقدم أنشطة ثقافية وترفيهية تُشجع على التفاعل المباشر.
العلاج النفسي والتدخل الحكومي:
• تطبيق العلاج السلوكي المعرفي (CBT) لمعالجة السلوكيات الإدمانية.
• في الصين، طبقت الحكومة قوانين صارمة تحد من استخدام الألعاب الإلكترونية لدى المراهقين، مما أدى إلى تقليل الآثار السلبية لهذه الظاهرة.

نحو عراق رقمي واعٍ
الإدمان الرقمي ليس مشكلة مستعصية، ولكنه يتطلب وعيًا مجتمعيًا وإرادة جماعية. يمكن للعراق، بموارده البشرية وثقافته الغنية، أن يصبح نموذجًا في إدارة التكنولوجيا بشكل صحي ومسؤول. من خلال التوازن بين الفوائد التي تقدمها التكنولوجيا وضرورة الحفاظ على الصحة النفسية والاجتماعية، يمكننا بناء جيل رقمي واعٍ وقادر على تحقيق التقدم دون التضحية بالقيم الإنسانية.